الهند : بلد العقول الصقيلة
حميد بن خيبش |
إن الحديث عن أي تجربة رائدة في مجال التعليم لا يعني بالضرورة توافر كل
مواصفات الريادة ، و خلو المسار من شتى أنواع الكوابح و الأعراض الجانبية ,
بقدر ما يعني تفوقها على نظيراتها في الاستشراف الجاد للمستقبل . ذلك أن
تطوير الأداء التعليمي في أي بلد لا يمكن أن يتحقق فقط بالاتكاء على قرار
سياسي جريء , أو باستثمار موارد ضخمة , وإنما يستلزم كذلك بيئة تستجيب
للتغيير و تتفاعل معه .
وحين يستعرض المرء حصيلة التحولات العميقة التي شهدتها الهند في الآونة الأخيرة , إن على مستوى البنى الاقتصادية و إدارة مشروعات الأعمال , أو من خلال التطور الملحوظ في مجالات العلوم و التكنولوجيا , يخلص حتما إلى أن الرهان على التعليم للفكاك من وطأة الانقسامات الاجتماعية والتباين اللغوي و الديني أمر ممكن .
لعل السمة البارزة للمجتمع الهندي هي التأرجح الدائم بين المتناقضات . فهو , بحسب نكتة هندية , أشبه بسكران عائد إلى البيت : يخطو خطوة إلى الأمام ثم خطوتين إلى الجانب , لكنه في النهاية يصل إلى البيت. و يُعزى الترنح الذي يطبع سير الإصلاحات في الهند إلى جملة من المعيقات المحلية أهمها :
وحين يستعرض المرء حصيلة التحولات العميقة التي شهدتها الهند في الآونة الأخيرة , إن على مستوى البنى الاقتصادية و إدارة مشروعات الأعمال , أو من خلال التطور الملحوظ في مجالات العلوم و التكنولوجيا , يخلص حتما إلى أن الرهان على التعليم للفكاك من وطأة الانقسامات الاجتماعية والتباين اللغوي و الديني أمر ممكن .
لعل السمة البارزة للمجتمع الهندي هي التأرجح الدائم بين المتناقضات . فهو , بحسب نكتة هندية , أشبه بسكران عائد إلى البيت : يخطو خطوة إلى الأمام ثم خطوتين إلى الجانب , لكنه في النهاية يصل إلى البيت. و يُعزى الترنح الذي يطبع سير الإصلاحات في الهند إلى جملة من المعيقات المحلية أهمها :
- الروح الطبقية الآسرة : ينفرد المجتمع الهندي بنظام طبقي حاد ورثه عن
العصور القديمة , حيث يُصنف الشعب ضمن أربع طبقات : البراهمة وهم نخبة
المجتمع , و العسكر , و المُلاك أو التجار , ثم الشودرا أي الخدم الذين
ينحصر دورهم في الحرف و الأعمال اليدوية . و كل طبقة مقيدة بجملة من
العادات و التقاليد التي تضمن استقلالها عن غيرها بما يحدد الرتبة
الاجتماعية للفرد مدى الحياة !
- الكثافة السكانية و التنوع اللغوي و الديني : إذ يبلغ عدد السكان أزيد
من مليار نسمة يقيم ما يقرب من 70 ٪ منهم في المناطق الريفية . و نشأ عن
التنوع الجغرافي تعدد في اللغات و الديانات و أنماط الحياة , حيث تم
الاعتراف رسميا في دستور البلاد باثنتين و عشرين لغة , بينما أحصى الرصد
الأنثربولوجي للهند خمسة وعشرين نظاما للكتابة وثلاثمائة وخمسا وعشرين لغة
تملك جميعها فرصة للاعتراف بها بحسب الثقل السياسي للناطقين بها ! أما
النسيج الديني للبلد فيضم الهندوس و المسلمين و المسيحيين و السيخ و غيرهم .
- تعاليم غاندي : فرغم التقدير الذي يتمتع به الرجل باعتباره صاحب
تعاليم فريدة في الكفاح ضد الاحتلال البريطاني , إلا أن تأييده لقرارات
سياسية و اقتصادية مستقلة عن الغرب الصناعي فرض على الهند حالة من العزلة و
الانسحاب من الاقتصاد العالمي . و لم تبادر إلى التحرر من تعاليمه إلا بعد
أن بلغت حافة الإفلاس عام 1991 جراء العاصفة الجيوبوليتيكية الناجمة عن
انهيار الاتحاد السوفياتي وارتفاع أسعار النفط بسبب حرب الخليج .
و لتجاوز هذه المعيقات سارعت الهند إلى إعادة بناء نظامها التعليمي من
خلال تبني سياسة قومية منذ عام 1968 تهدف إلى تجويد الخدمة التعليمية و دعم
قدرات المؤسسات التعليمية لاحتضان أكبر شريحة ممكنة من الأطفال . كما سعت
إلى الرفع من كفاءة المعلمين عن طريق إحداث مجلس قومي للبحث و التدريب
التعليمي .
ومع بداية الإصلاح الاقتصادي عام 1991 حرصت الهند على توسيع الاستفادة من التقنيات الحديثة للتخفيف من حدة الفوارق التعليمية داخل النسيج المجتمعي خصوصا في الأرياف . وبحلول سنة 2009 أقر البرلمان قانونا للتعليم الإلزامي تلتزم بموجبه المدارس الحكومية بتوفير تعليم مجاني , إضافة إلى تحمل المدارس الخاصة لمصاريف %25 من طلابها .
و لأجل تحسين رأس المال البشري و الرفع من درجة كفاءته في مجتمع يشهد تحولات متسارعة , عمدت الهند إلى وضع مخطط يهدف إلى إدراج مواد التعليم المهني في المرحلة الثانوية , وتوجيه الطلاب للإقبال على برامج للتدريب المهني تؤهلهم لولوج سوق الشغل , وتحقيق ما يُصطلح عليه ب “التلمذة الصناعية” . و أدى بروز الهند كرقم صعب في مجال تقنية المعلوميات إلى إشراك المجتمع المدني في تنفيذ دورات للتدريب المهني باعتماد الوسائط الحديثة .
أما بالنسبة للتعليم العالي فإن الهند تملك واحدا من أضخم النظم التعليمية .فمعاهدها و جامعاتها تستقطب كل سنة مئات الطلاب من شتى أنحاء العالم . ووفق أطلس أعدته جريدة لوموند الفرنسية , فإن العقول الصقيلة ستأتي مستقبلا من الشرق وتحديدا من الهند و الصين .وهو ما دفع خبراء التعليم العالي في أوربا و أمريكا إلى التحذير من اجتياح الموجة الآسيوية لمواقع الصدارة في مجال البحث العلمي .
يُعزى سر هذا التفوق في الهند إلى ما تتمتع به أغلب الجامعات و المعاهد من استقلال ذاتي في التدبير الإداري وتحديد معايير الالتحاق بالكليات وتنظيم الامتحانات.
ومكنت الشراكة مع المؤسسة الدولية للتنمية من تمويل مشروع طموح لإعادة تصميم الخطط التعليمية الحكومية , و تشجيع الاستقلالية الإدارية و الأكاديمية لتحسين جودة التعليم . وهو المشروع الذي حقق إضافات نوعية في مسار تطوير التعليم العالي حيث ارتفعت معدلات توظيف طلبة الدراسات العليا إلى %76 , وخضع أزيد من 13 ألف موظف و 30 ألف كلية لدورات في التدريب و التطوير المهني , كما حظي 220 ألف طالب من الفئات المحرومة بتعليم تكميلي أهله لولوج سوق الشغل .
إلا أن هذه الريادة في حقل التعليم العالي تعترضها اليوم تحديات مرتبطة أساسا بضعف التمويل و الافتقار الى مراكز ابتكار تدعم حضور الهند في المنتدى العالمي للتكنولوجيا المتطورة , كما تواجهها انتقادات حادة من الداخل تهم انحياز صانعي القرار للنخبة على حساب الأمة بدليل الاستثمار الثابت في التعليم العالي على حساب التعليم الأساسي و الثانوي (1)
ومع بداية الإصلاح الاقتصادي عام 1991 حرصت الهند على توسيع الاستفادة من التقنيات الحديثة للتخفيف من حدة الفوارق التعليمية داخل النسيج المجتمعي خصوصا في الأرياف . وبحلول سنة 2009 أقر البرلمان قانونا للتعليم الإلزامي تلتزم بموجبه المدارس الحكومية بتوفير تعليم مجاني , إضافة إلى تحمل المدارس الخاصة لمصاريف %25 من طلابها .
و لأجل تحسين رأس المال البشري و الرفع من درجة كفاءته في مجتمع يشهد تحولات متسارعة , عمدت الهند إلى وضع مخطط يهدف إلى إدراج مواد التعليم المهني في المرحلة الثانوية , وتوجيه الطلاب للإقبال على برامج للتدريب المهني تؤهلهم لولوج سوق الشغل , وتحقيق ما يُصطلح عليه ب “التلمذة الصناعية” . و أدى بروز الهند كرقم صعب في مجال تقنية المعلوميات إلى إشراك المجتمع المدني في تنفيذ دورات للتدريب المهني باعتماد الوسائط الحديثة .
أما بالنسبة للتعليم العالي فإن الهند تملك واحدا من أضخم النظم التعليمية .فمعاهدها و جامعاتها تستقطب كل سنة مئات الطلاب من شتى أنحاء العالم . ووفق أطلس أعدته جريدة لوموند الفرنسية , فإن العقول الصقيلة ستأتي مستقبلا من الشرق وتحديدا من الهند و الصين .وهو ما دفع خبراء التعليم العالي في أوربا و أمريكا إلى التحذير من اجتياح الموجة الآسيوية لمواقع الصدارة في مجال البحث العلمي .
يُعزى سر هذا التفوق في الهند إلى ما تتمتع به أغلب الجامعات و المعاهد من استقلال ذاتي في التدبير الإداري وتحديد معايير الالتحاق بالكليات وتنظيم الامتحانات.
ومكنت الشراكة مع المؤسسة الدولية للتنمية من تمويل مشروع طموح لإعادة تصميم الخطط التعليمية الحكومية , و تشجيع الاستقلالية الإدارية و الأكاديمية لتحسين جودة التعليم . وهو المشروع الذي حقق إضافات نوعية في مسار تطوير التعليم العالي حيث ارتفعت معدلات توظيف طلبة الدراسات العليا إلى %76 , وخضع أزيد من 13 ألف موظف و 30 ألف كلية لدورات في التدريب و التطوير المهني , كما حظي 220 ألف طالب من الفئات المحرومة بتعليم تكميلي أهله لولوج سوق الشغل .
إلا أن هذه الريادة في حقل التعليم العالي تعترضها اليوم تحديات مرتبطة أساسا بضعف التمويل و الافتقار الى مراكز ابتكار تدعم حضور الهند في المنتدى العالمي للتكنولوجيا المتطورة , كما تواجهها انتقادات حادة من الداخل تهم انحياز صانعي القرار للنخبة على حساب الأمة بدليل الاستثمار الثابت في التعليم العالي على حساب التعليم الأساسي و الثانوي (1)
يرى بعض المتتبعين أن الهند أحجية يصعب حلها على من يكتفي بتأملها من
الخارج , إلا أن التجاذب الحاصل بين تعميم التعليم و الولاء لتقاليد
التفضيل الطبقي يضعنا بالفعل أمام تجربة تستحق التأمل !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1) يُراجع كتاب : ” كيف سيكون القرن الواحد و العشرون هنديا بامتياز ” للدبلوماسي الهندي بافان كومار فرما .